حين كنتُ بطريق الخروج من محطة الميترو، بعد نهار دراسي طويل، قرأتُ إشارة تقول بأن السلم الكهربائي معطل، وأنه علي صعود السلم العادي. يا إلهي، قلت لنفسي، هل سأصعد 120 درجة الآن؟ حسنا.. لا مفر
استجمعتُ قواي وصعدت السلم مع أفواج من الناس. ومن بين الجموع حولي،استوقفني رجل جالس في وسط الدرج، ربما كان في الأربعينات من عمره، يمسك كرسيه المتحرك بكلتا يديه، يلتقط أنفاسه لبضع ثوان، ثم يسحب الكرسي من جديد ليصعد درجة أو درجتين أخرتين
ما كان مني إلا أن توجهت إليه بلهفة أعرض عليه المساعدة. أجاب بسرعة: لا لا. تجاهلتُ رده وكأنني لم أسمعه، توجهت لشخص وطلبت منه أن يساعدني في حمل الكرسي ومساعدة الرجل على تخطي الدرج الطويل. ثم جاءني صوت صاحب الكرسي المتحرك يقول من جديد: لا لا، لا أريد، سأصعد السلم وحدي. وأمام ذهولي حاولت التكلم من جديد. لكنه قال: لا. شكرا لك. أستطيع الصعود وحدي
ثم سحب الكرسي وأكمل الصعود زاحفا من جديد
أكملت طريقي وأنا أتساءل. لماذا رفض المساعدة؟ لماذا اختار الحل الأصعب؟
وأنا غارقة بأفكاري، تذكرتُ قصة معالج نفسي من غزة، كان يعمل في إحدى المؤسسات لتقديم المساعدات النفسية لمن تعرضوا لظروف الحرب. وفي إحدى الهجمات على غزة ، فقد المعالج 27 شخصا من عائلته الممتدة. 27 في ضربة واحدة صاروا في عداد القتلى. استغرق جمع أشلائهم ثلاثة أيام كما قال المعالج. وبعد جنازتهم وانتهاء أيام العزاء، عاد المعالج إلى العمل مع صفوف المهنيين الآخرين لتقديم المساعدة النفسية للناس من جديد
وحين سئل: كيف تعالج الناس إذا كنت أنت نفسك ضحية حرب؟
قال: لستُ ضحية حرب، بل أنا ناج منها ومقاوم لها
من بين الظروف التي تُفرض علينا ولا تسألنا عن رأينا فيها، فعل المقاومة لهذه الظروف يكون أحد خياراتنا. أن نولد مع إعاقة جسدية أو عقلية، أن نفقد عزيزا وقريبا، أو أن يلم بأحدنا مرض قاتل.. هي ظروف فُرضت علينا وما كان أمامنا سوى أن نختار: إما دور الضحية، تلك التي تتقوقع حول نفسها وتبكي ما حدث وتستجدي المساعدات من الآخرين، لكنها تبقى في مكانها ولا تتقدم قيد أنملة، أو نختار دور الناجي من هذه الظروف بأن نتقبلها أولا، ثم نقاومها بالاستمرارية، معها، بها، ورغما عنها
لقد صعد الرجل أخيرا السلم الطويل، جارا معه كرسيه المتحرك، ربما لأنه اختار أن يكون مقاوما لظروفه وليس ضحية لها. وربما لأنه يعلم أنه فقد قدميه، لكنه لم يفقد إصراره وعزيمته. وإذا كان قد فقد جزءا من جسده، فهو بالطبع لم يفقد أعضاء أخرى، لا زالت تعمل، ولا زال بإمكانه الاستمرار ما دام حيا
بقلم : أحلام رحال
0 تعليقات